أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج حداد - النظام الدولي المختل والدور التاريخي العتيد للمثلث الشرقي العظيم















المزيد.....



النظام الدولي المختل والدور التاريخي العتيد للمثلث الشرقي العظيم


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 1444 - 2006 / 1 / 28 - 04:01
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


بعد تحرير القدس من الصليبيين، الذي اضطلع فيه الاكراد بدور بارز، تقدم بعض المشاركين في الحملة من القائد صلاح الدين الايوبي قائلين: أعز الله الاسلام بالكرد
فرد عليهم صلاح الدين قائلا: بل أعز الله الكرد بالاسلام!ـ
وليس شأننا نحن، وهنا، النظر في الجانب الديني لمقولة صلاح الدين، بل في الجانب الاجتماعي ـ القومي، في مداه التاريخي، وليس في المدى الظرفي العارض. فبهذه المقولة رفض صلاح الدين، وفي لحظة انتصاره بالذات، وضع أبناء قومه الكرد فوق غيرهم من الاقوام التي جمعها المتحد الحضاري الذي كانته الدولة العربية الاسلامية حتذاك، بل وشرفهم بأن يكونوا في خدمة هذا المتحد!
وهذا هو فقط احد وجهي مدالية صلاح الدين، التي تزين بها صدر التاريخ العربي ـ الكردي ـ الاسلامي المشترك.
اما وجهها الاخر، الذي تسجله صفحات التاريخ، والذي لا يقل اهمية عن الاول، فهو الموقف الحضاري النبيل لصلاح الدين، ليس من المسيحيين عموما وحسب، بل وتحديدا من اوروبا الغربية ذاتها، التي قامت بدور قاعدة انطلاق للحملات الصليبية؛ وحتى من الصليبيين انفسهم، أثناء حروبه معهم، وبعد انتصاره عليهم. حيث يبدو بجلاء ان نقطة الارتكاز فيما يمكن تسميته الستراتيجية العليا لصلاح الدين، التي كانت تعبر عن الواقع الحضاري للدولة العربية الاسلامية حينذاك، لم تكن إبادة ابناء الشعوب والديانات الاخرى، حتى منها التي كانت في مراحل زمنية معينة، اداة ومطية لممارسة العدوان على شعوبنا، بل ان تلك الستراتيجية كانت تتمثل في: التوصل ـ عبر، وبعد، كسر شوكة العدوان والاستعمار ـ الى اقامة الصلات الحضارية البناءة، مع جميع الشعوب والديانات، على قاعدة الندية والمساواة والاحترام والمنفعة المتبادلين.
وبهذه السماحة القومية والانسانية، ضمن متحد الدولة العربية الاسلامية، وفي النطاق العالمي الشامل، كان صلاح الدين يستلهم الروح الحقيقية للشرق، المهد الاول للانسانية والحضارة.
وهذه السماحة هي الميزة الاساسية في تاريخ العرب والاكراد معا. ونقول الميزة الاساسية، دون ان نغفل وجود الشوائب، التي لا تخلو منها انصع صفحات التاريخ، الا ان الجوهر يبقى هو الاساس، الذي ينبغي اخذه بالاعتبار، والبناء عليه.
فالعرب كانوا قد كرسوا، اجتماعيا وسياسيا وثقافيا واخير لا آخر دينيا، مبدأ ونهج الانفتاح والسماحة، عشائريا واتنيا وقوميا ودينيا،على قاعدة "الناس سواسية كأسنان المشط..." و"الخلق كلهم عيال الله" و"لا فضل لعربي على اعجمي...".
ويبدو هذا سهلا على الفهم، فيما يخص حالة الامة العربية، لأنها هي بالذات، ككل حضاري، هي نتاج لتواصل وانصهار وتعايش كل الاقوام والحضارات والديانات، التي سبق لها وتواجدت في ما يسمى اليوم العالم العربي او الوطن العربي الكبير. اي انها، كقومية لاعنصرية، هي حصيلة تاريخية لمتحد مجتمعي حضاري، وليست هي ابدا، وليست فقط مجتزءا واحدا من المكونات الاقوامية او الاديانية للعرب المعاصرين، هو العنصر العربي ـ المسلم الذي انطلق من شبه الجزيرة العربية، كما قد يتمجهل البعض. علما بأن عملية التبوتق الحضاري القومي هذه، لم تتم بسهولة، بل كنتيجة لمخاض تاريخي طويل، كان ظهور الاسلام ونشوء الدولة العربية الاسلامية المرحلة الاهم فيه، من حيث التوحيد التفاعلي للعناصر المكونة للامة العربية المعاصرة. وما يزال الظل الشامخ لتلك الدولة الحضارية يترامى تاريخيا الى ايامنا الراهنة. ولا يزال العرب خاصة، والشعوب الاسلامية عامة، الى اليوم، يعيشون في فيء هذا الظل الحضاري العظيم.
اما الاكراد، الاقل عدديا، والاقل تنوعا اتنيا، والاكثر انسجاما عنصريا، فإنه لمن الملفت للنظر حقا ان يختاروا النهج الانفتاحي والسماحي ذاته الذي انتهجه العرب، وهو ما لم يفعله سلاطين الترك والفرس، لا قبل الاسلام، ولا بعده، ولا ـ خصوصا ـ حينما واتتهم السيادة في الدولة الاسلامية، كما واتت الاكراد في العهد الايوبي. فعلى الضد من ذلك، طور هؤلاء السلاطين، ولا سيما الترك، نزعة التسلط والتوسع والاستئثار القومي، في حين سار الكرد مع العرب في تطوير ميزة السماحة والاخاء القومي، سواء حينما كانوا في السلطة او خارجها.
وهذا الاختيار "العربي" الحر للشعب الكري، منذ القديم، وحتى وهو في أوج العزة والسطوة، ـ وهو اختيار جدير بالدراسة المتمعنة من قبل المؤرخين المختصين ـ ، انما يعود الى الظروف التي نشأ فيها هذا الشعب الأبي، وجعلته مطبوعا على الاقتداء بالعرب وحب الحرية والمساواة، بالرغم من الاوضاع القاسية والاهوال التي تعرض لها وعاناها، على مدى تاريخه الطويل.
وهذا الاختيار بالذات، هو الذي جعل الاكراد يسيرون دائما جنبا الى جنب مع العرب، في السراء والضراء. وهو ـ وقبل أي شيء آخر ـ الاساس التاريخي للعلاقة المميزة بين الامتين الشقيقتين، الى درجة كاد معها الاكراد يحسبون عربا. وحتى حينما كان الحكام العرب يسيئون اليهم، فإنهم (اي الاكراد) لم يخونوا عهدهم التاريخي، وإن كانت ردة فعلهم تقول "وظلم ذوي القربى...".
* * *
وميزة السماحة القومية والانسانية، التي جمعت العرب والاكراد، هي الخلفية الاساسية، او البوتقة، التي تطورت فيها الحضارة العربية الاسلامية، والتي قامت على اساسها الدولة العربية الاسلامية، التي استمرت ردحا طويلا من الزمان، على امتداد "المثلث الشرقي العظيم"، الممتد بين شمال افريقيا، وشبه الجزيرة العربية، وجبال كردستان، والذي شمل الاندلس، كما وافغانستان وجزء من الهند وآسيا الوسطى لبضعة قرون.
ومنذ ايام بيبلوس وأوغاريت وصيدون والفراعنة وقرطاجة واليمن وبابل وميديا، وغيرها من مواقد التاريخ القديم، التي أضاءت وشقت الطريق لنا وللعالم، وحتى بداية القرن السادس عشر، تاريخ سقوط الدولة العربية الاسلامية في براثن سلاطين الترك والفرس، اضطلع هذا المثلث العظيم بدور مركز اشعاع حضاري دائم. فهو الذي علم العالم أبجدية الحروف والارقام، وابجديات أمهات العلوم، وهو الذي وضع اسس المدارس الفلسفية والاخلاقية والقانونية والرسالات والاديان.
والى ذلك، وبحكم موقعه الجغرافي في وسط العالم القديم (مقارنة بما سمي "العالم الجديد" الذي "اكتشفه" الغزاة الاوروبيون في القرون الوسطى)، وبفضل ميزة الانفتاح التي طبع بها، توجب على هذا المثلث ان يضطلع بدور اساسي في تاريخ البشرية هو:
ـ انه مركز التوازن، والتواصل، والتفاعل، الحضاري والانساني، بين كافة المجتمعات والجماعات البشرية، على اختلافها، من الشرق الى الغرب، ومن الشمال الى الجنوب.
وبحكم هذا الدور الاساسي، توجب ايضا على المثلث الشرقي العظيم الاضطلاع بدور رئيسي آخر هو:
ـ دور صمام الامن والامان لمختلف الحضارات والجماعات الانسانية، حيث كانت هذه المنطقة بمثابة "خط الدفاع" الطبيعي الاول، بمواجهة الغزوات والفتوحات الاستعمارية، من الغرب الى الشرق، ومن الشرق الى الغرب.
* * *
وبالرغم من الضعف الذي اخذ يدب في جسم الدولة العربية الاسلامية، بعد الحملات الصليبية، والغزوات التتارية ـ المغولية التي زامنتها، فإن كلمة العرب، ومعهم اخوتهم الاكراد، كانت لا تزال قائمة في تلك الدولة.
وببقاء تلك الكلمة، اي عمليا ببقاء نهج السماحة القومية والانسانية، داخليا وخارجيا، فإن الدولة العربية الاسلامية ظلت تضطلع بدورها التاريخي، برغم ما أثخنت به من جراح عميقة. ومن ثم بقي التوازن الحضاري هو السمة المميزة للنظام الدولي السائد حتذاك. فظلت حضارات الهند، والصين، وافريقيا السوداء، وغيرها من الحضارات الآسيوية والافريقية، من جهة، والحضارات الرومانية والبيزنطية والسلافية وغيرها من الحضارات الاوروبية والاوراسية، من جهة ثانية، تعيش وتنمو جنبا الى جنب الحضارة العربية الاسلامية. وكانت جميع تلك الحضارات، بوجود "خط الدفاع" العربي الاسلامي، في حمى من الاجتياح والتدمير، وقادرة على التطور بحرية، من ضمن قوانينها الخاصة، ومن ضمن قوانين التفاعل وتوازن القوى في محيطاتها القريبة والبعيدة.
وكان الوجود العربي الاسلامي في الاندلس تأكيدا لهذه القاعدة، لا شذوذا عنها، اذ انه اضطلع بدور جسر تفاعل حضاري واسهم في تطوير الحضارة الاوروبية، وذلك لا كجزء منفصل (حضاريا) بل كجزء لا يتجزأ من الدور التاريخي العام الذي كان يضطلع به المثلث الشرقي العظيم.
ومما يستوقف النظر هنا بشكل خاص، ان افريقيا السوداء، التي تمتلك شعوبها حضارات اصيلة، كانت نسبيا اكثر تخلفا، وبالتالي اكثر ضعفا من غيرها، بفعل قساوة المناخ ووحشية البيئة الطبيعيتين، مما لم يكن بامكان الانسان التغلب عليه بسهولة في تلك الازمان. ومع ذلك فقد ظلت اقوام وشعوب افريقيا السوداء حتذاك مستقلة وحرة بذاتها، وتتطور بقوانين تطورها الخاصة، وفي حمى من حملات الاسترقاق واسع النطاق الذي تعرضت له لاحقا، بنتيجة التوسع "التمديني!" الاوروبي، بعد انهيار "خط الدفاع" الذي كانت تمثله الدولة العربية الاسلامية.
* * *
ومع أفول كلمة العرب، أفلت حكما كلمة الكرد ايضا. وكان ذلك بمثابة مأساة ليس للعرب والاكراد، ولسواهم من شعوب الدولة العربية الاسلامية السابقة، فقط، بل ان هذا الافول يمثل المأساة الاكبر في تاريخ البشرية بأسرها، وهي المأساة التي تنبثق منها وتعود بجذورها اليها جميع المآسي الانسانية اللاحقة.
فما ان سقط الحكم العربي الاسلامي في الاندلس، وقامت محاكم التفتيش وتم التطهير العنصري للعرب والمسلمين في شبه القارة الايبيرية، حتى عادت من جديد حمى الحلم الاستعماري الدولي للاسكندر المقدوني تجتاح اوروبا.
ولكن اوروبا الغربية الاستعمارية لم تكن قد استفاقت بعد من وهلة الحروب الصليبية، وكانت قد حفظت دروس تلك الحروب.
فبدأت بشكل حثيث، بعد سقوط الاندلس، محاولات الوصول الى الهند، ولكن ليس عن طريق الاختراق المباشر المستحيل للمنطقة العربية، بل عن طريق الالتفاف حولها. وكان غاية تلك المحاولات تحقيق الاهداف الاستعمارية ذاتها، على مراحل، وذلك:
اولا ـ بتحييد ومحاصرة المنطقة العربية، التي كانت على الدوام عقبة كأداء امام اي توسع استعماري، واستطاعت "احتواء" و"اسقاط" جميع الامبراطوريات الاستعمارية التي سبق واجتاحتها.
ثانيا ـ بالاستفراد بالشرق الاقصى وغزوه واستعماره.
ثالثا ـ بالاستفراد بافريقيا السوداء، والسيطرة عليها، ونهب خيراتها، واسترقاق شعوبها.
رابعا واخيرا ـ بإسقاط العقبة العربية ذاتها من خلال الحصار والضغط الخارجي، من جهة، واستغلال الثغرات ونقاط الضعف الداخلية، من جهة ثانية. والتوصل اخيرا الى استعمار الشرق الاوسط، وبذلك يفتح الباب امام اوروبا الغربية لتحقيق الحلم الاستعماري العالمي للاسكندر.
وليس من قبيل الصدفة ان تاريخ سقوط الاندلس، هو في الوقت نفسه تاريخ الشروع في محاولات استكشاف الطريق الاوروبية الى الهند، خارج المنطقة العربية. وقد سمي "رأس الرجاء الصالح" بهذا الاسم من باب التمني بالتوفيق في الالتفاف حول المنطقة العربية من خلال الدوران حول افريقيا. كما كانت مأساة "اكتشاف" اميركا، بدافع من هذا الهدف الاستعماري ذاته. والرواد الكبار مثل كريستوف كولومبوس وفاسكو دي غاما وفرنان ماجلان لم يكونوا سوى قراصنة استعماريين يعملون في خدمة الدول الاستعمارية والشركات الاحتكارية العالمية، و ـ للاسف ـ بمباركة الكنيسة الغربية، التي ـ فيما يخص رحلة كولومبوس الاستعمارية ـ غضت النظر عن المقولة الدينية بعدم كروية الارض، في حين انها كان تحاكم العلماء الحقيقيين الذين قالوا بالنظام الشمسي وكروية الارض.
وبذلك فإن تاريخ سقوط الاندلس، ليس هو تاريخ "تحرير" اسبانيا من "استعمار" عربي اسلامي غير موجود، بل هو على وجه التحديد تاريخ انطلاق ظاهرة الاستعمار والامبريالية، التي طبعت التاريخ العالمي بطابعها البغيض حتى اليوم.
وجاء "الفتح الاسلامي!" العثماني للدولة العربية الاسلامية، ليكمل "تحرير" الاندلس، فيقضي تماما على كلمة العرب والاكراد. وبسيطرة الهمجية العثمانية، غاب تماما الدور التاريخي للمثلث الشرقي العظيم، وفتحت الطريق نهائيا امام اطلاق يد الدول الاستعمارية الغربية، على النطاق العالمي بأسره، دونما رادع او وازع دولي، سوى رادع ووازع الصراع فيما بين تلك الدول انفسها. حتى ليمكن القول ان "الفتح" العثماني كان استمرارا للحروب الصليبية، تحت رايات "اسلامية!". واذا كان على الباحثين والمؤرخين المنصفين ان يزيلوا الكثير من الزيف التاريخي الذي يعلو اكثر من ناطحات السحاب الاميركية المبنية فوق جماجم ملايين الهنود الحمر والسود، فإنه يكفي ذكر بعض الوقائع المنشورة او المطوية، التي تحفر في الضمير المستتر للتاريخ:
1 ـ ان سلاطين بني عثمان، بشكل عام، كانوا قد ناوشوا طلائع الحملات الصليبية، انما فيما بعد حينما ادركوا ابعادها الكبرى، التي تقصد بالدرجة الاولى ضرب العرب والسيطرة على المنطقة العربية، نأوا بأنفسهم عن المشاركة الفعالة في مواجهة الصليبيين. وهذا لم يكن بعيدا عن "نظر" و"ذاكرة" الصليبيين. وذلك على الضد تماما من الاكراد، الذين تقدموا الصفوف العربية ذاتها في الكفاح ضد الصليبيين، كما وضد العثمانيين حينما اشهروا سيوفهم ضد العرب، مستفيدين من الضعف الذي حل بهم بنتيجة الحروب الصليبية.
2 ـ ان الشعوب المسيحية الشرقية (اليونان، الارمن، شعوب البلقان، الروس) ناهيك عن المسيحيين العرب، لم يشاركوا في الحروب مع الصليبيين ضد العرب والمسلمين. بل على العكس.
3 ـ ان اوروبا الغربية، الكاثوليكية ومن ثم البروتستانتية، كافأت فيما بعد العثمانيين، باطلاق يدهم في "تأديب" الشعوب المسيحية الشرقية، التي لم تنزلق الى درك التعصب "الصليبي" والمشاركة في الحروب "الصليبية". فتركت العثمانيين يستولون على القسطنطينية، ويستعبدون شعوب البلقان، والجزء الاكبر من ارمينيا، ويتطاولون ولا يزالون على الروس، ويعملون لابادة المسيحيين العرب مباشرة او بواسطة عملائهم او عن طريق اثارة الفتن التي تتيح لهم ولأمثالهم من المسلمين المزيفين التحلل من عهود الامان التي اعطيت للمسيحيين والكتابيين منذ زمن الرسول والخلفاء الراشدين.
4 ـ حتى عشية الحروب "الصليبية" كانت القسطنطينية (المسيحية الشرقية)، بموازاة الاندلس (العربية الاسلامية)، تمثل رقبة الجسر الثانية للتواصل الحضاري بين الشرق والغرب عامة، واوروبا والعالم العربي الاسلامي خاصة. وكانت اوروبا الغربية، الكاثوليكية فالبروتستانتية، جد منزعجة من هذا الدور العالمي الايجابي للقسطنطينية. ومعلوم ان الحملة "الصليبية" الرابعة قد وجهت ضد القسطنطينية بالذات، حيث اقيمت فيها "امبراطورية لاتينية" استمرت من 1204 الى 1261. وليس بدون عبرة التذكير هنا ان قسما من البيزنطيين قد لجأ، بعد سقوط القسطنطينية على يد "الصليبيين"، الى منطقة حلب، التي كان يحكمها قبل ذلك الحمدانيون الذين كانوا قد حاربوا البيزنطيين قبل الحروب "الصليبية".
5 ـ بسقوط القسطنطينية على يد العثمانيين في 1453، سقط جسر التواصل بين اوروبا عامة والمسيحيةالاوروبيةالشرقية خاصة وبين المنطقة العربية/الاسلامية، واصبحت الاندلس معزولة "دوليا". وكان ذلك بمثابة مقدمة شرطية للسقوط النهائي للاندلس في 1492. واذا قام اي بحث تاريخي جاد حول هذا الموضوع سيجد الصلة بين: 1ـ سقوط القسطنطينية، 2 ـ سقوط الاندلس، 3 ـ سقوط المنطقة العربية الاسلامية تحت سنابك الطغاة العثمانيين، 4 ـ سقوط المثلث الشرقي العظيم في قبضة الاستعمار الغربي، و5 ـ الارتباط العضوي (خاصة بواسطة اليهود الخزر!!) بين نهضة الهمجية العثمانية، من جهة، ونهضة الهمجية الاستعمارية الاوروبية الغربية ومن ثم الاميركية الشمالية، من جهة ثانية، ضد العرب والكرد وغيرهم من شعوب الدولة العربية الاسلامية، وضد الشعوب المسيحية الاوروبية الشرقية خاصة والشعوب الشرقية عامة.
6 ـ بعد ابادة وتطهير القسطنطينية من الشعب الاغريقي ذي الحضارة العريقة، وعثمنتها (اي القسطنطينية) وتحويلها الى "الاستانة" او "اسطنبول"، التي يسميها بعض السطحيين ـ زورا وبهتانا ـ "اسلامبول!" (كيف "اسلام" وكيف "بول"؟!)، تدفق اليها الاغنياء والوجهاء من اليهود الخزر، الذين كانوا منتشرين في اوروبا الشرقية والوسطى. وهؤلاء كان يجمعهم مع العثمانيين عاملان:
الاول ـ اصلهم الطوراني (حيث هم ـ اي اليهود الخزر ـ ابناء عمومة الاتراك الطورانيين الآريين اللاساميين، مثلما ان اليهود العبريين هم ابناء عمومة العرب الساميين. وهذا الانقسام يتخذ الان شكل يهود غربيين (أشكناز = خزر) ويهود شرقيين (سفارديم = عبريين) ).
والثاني ـ الحقد على الروس خاصة والمسيحيين الشرقيين عامة، حيث ان الروس هم الذين قضوا على مملكة الخزر التي كانت تقع على ضفاف نهر الفولغا، في نهاية القرن العاشر الميلادي.
وأغنياء اليهود الخزر هم الذين كانوا واسطة العقد الاولى، للتحالف القديم بين سلاطين الترك، واوروبا الغربية، ضد الشعوب المسيحية الشرقية، من جهة، وضد العرب والاكراد والشعوب الاسلامية الاخرى، من جهة ثانية.
7 ـ بعدما قامت محاكم التفتيش بتطهير الاندلس من المسلمين والعرب، بمن فيهم اليهود العبريين، (وكان الجميع يسمون Moor من قبل الفرنجة، ولا تزال موريتانيا تحمل هذا الاسم)، فإن غالبية اليهود الاندلسيين عادوا الى المغرب. ولكن قسما كبيرا منهم اتجه نحو البلدان الاوروبية الاخرى، ومن هنا تسميتهم "سفارديم" (من "سفر") التي تعني "المهجرين" او "اللاجئين"(وعنا لعلماء اللغة: ربما ان كلمة transfer (اي الترحيل) باللغات اللاتينية تعود باصلها الى كلمة "سفر" و"تسفير" العربية ـ السامية). ومن بين هؤلاء، فإن الوجهاء والاغنياء على الاخص تبعوا مصالحهم الرأسمالية، ويمموا شطر اوروبا الغربية البروتستانتية، كما حط قسم كبير منهم الرحال الى جانب ابناء دينهم اليهود الخزر في اسطنبول، التي تحولت الى المركز الدولي اليهودي البديل للاندلس. ولما كانت السلطنة العثمانية الناشئة بأشد الحاجة الى الرساميل، والعلاقات الدولية وخاصة التجارية، والتجربة الادارية والسياسية، لليهود الخزر والعبريين، فقد تحول هؤلاء بسرعة الى "المفتاح" اليهودي، بكل معنى الكلمة، لـ"الباب العالي" العثماني. وتحولت اسطنبول الى مركز دولي للطغمة العليا المالية الدولية، اليهودية.
8 ـ وما ان استتب الامر للسلاطين العثمانيين بالقضاء على الدولة العربية الاسلامية، واقامة الامبراطورية العثمانية على انقاضها، حتى بدأوا، عملا بمشورة مستشاريهم واعوانهم من الطغمة العليا اليهودية، بمنح الامتيازات للمستعمرين الغربيين التي سميت الامتيازات الاجنبية. وقد وقع السلطان سليمان القانوني "جدا!" اول معاهدة بهذا الشأن عام 1536، اي بعد عشرين عاما فقط على معركتي جالديران (1514) ومرج دابق(1516). ومنذ ذلك الحين بدأ التغلغل المالي الامبريالي في الشرق الاوسط خاصة، والشرق عامة، بحيث سارت الرساميل الاستغلالية "اليهودية" و"المسيحية" الاوروبية الغربية خلف السيف "الاسلامي" العثماني والى جانبه. ومن هنا جاء نشوء وتطور ظاهرة الاستعمار والامبريالية العالمية، التي لا وجود لها الا عبر استعمار واستغلال واستلاب المثلث الشرقي العظيم خاصة، والشرق عامة.
وباكتمال هذه الحلقة الجهنمية، التي بدأت بسقوط القسطنطينية وانتهت بسقوط الدولة العربية الاسلامية، سطرت في كتاب التاريخ العالمي الصفحات السود التالية:
الاولى ـ الحكم بالجمود والالغاء والموت على جميع الحضارات الشرقية الام، من الصين والهند حتى اقاصي افريقيا.
الثانية ـ الحكم على المجتمعات الشرقية كافة، بالالحاق والعبودية، وتحويل الشرق الى "مدى حيوي" للمتروبولات الاستعمارية والامبريالية الغربية(بالواسطة ومن دون الواسطة العثمانية)، والى "ممتلكات ما وراء البحار"، ومناجم خامات وعبيد، وأسواق "شعوب همجية ومتوحشة وقذرة".
الثالثة ـ تشريع وارتكاب ابشع المجازر العنصرية في تاريخ البشرية، التي سارت النازية والفاشية والصهيونية على منوالها فيما بعد، وهي بالاخص:
أ ـ ابادة الملايين من "الهنود الحمر" ـ السكان الاصليين لما يسمى "اميركا"، ومن ثم التغرير بالرعاع والمغامرين من "الباحثين عن الذهب"، والعاطلين عن العمل وضحايا الرأسمالية ذاتها في اوروبا، للذهاب الى "اميركا" والاستيطان في "ارض بلا شعب". وقد اضطلع المتمولون اليهود، الخزر بالاخص، بدور رئيسي في هذه العملية الاستيطانية ـ الاستعمارية لـ"العالم الجديد". وقد طبقوا لاحقا "تجربتهم الاميركية" على فلسطين العربية.
ب ـ ابادة الملايين من الزنوج الافارقة، خلال حملة الصيد البشري الرهيبة التي بدأها المستعمرون "المتمدنون" ضدهم، واستمرت عشرات السنين، مع الصمت المطبق واحيانا المباركة ـ للاسف ـ من قبل الكنيسة الغربية، الكاثوليكية والبروتستانتية. وقد تم صيد واسترقاق عشرات ملايين الزنوج، ونقلهم قسرا الى اميركا، وبيعهم كالدواب، وتحويلهم الى عبيد وارغامهم على العمل المضني حتى الموت في بناء "العالم الجديد"، وتحديدا "الولايات المتحدة الاميركية"، التي يقف اليوم "تمثال الحرية" على بوابتها، ساخرا من العالم اجمع، إذ هي الدولة الوحيدة الكبرى في هذا العالم التي ـ وكأكبر لطخة عار في جبين البشرية ـ تأسست على التطهير العرقي، والاستعباد العنصري، الكاملين.
* * *
وبنتيجة ضياع الدور التاريخي للمثلث الشرقي العظيم، اختل التوازن الحضاري العالمي بكل جوانبه، الاقتصادية والثقافية، السياسية والعسكرية، القومية والانسانية، ولمّـا تقم له قائمة بعد، بالرغم من كل التقدم الذي حققته البشرية حتى الان، على الصعد الانتاجية والعلمية والسياسية. ونشأ نظام دولي تعسفي، هو السائد الى يومنا هذا، وهو يقوم على التقسيم الالحاقي للعالم ويتألف من قسمين رئيسيين:
أـ المركز: ممثلا بالمتروبولات الاستعمارية والامبريالية. وتتصارع المتروبولات فيما بينها على زعامة هذا المركز. وتتناوب على الزعامة في كل مرحلة مختلف الدول الامبريالية الكبرى، تبعا لميزان القوى، واختلاف التحالفات اللصوصية ونتائج الحروب الطاحنة. وتتولى الزعامة الان الولايات المتحدة الاميركية. وهناك نواة مركزية للسلطة الفعلية في هذا المركز، ايا كانت الدولة ـ المتروبول التي تتولى الزعامة في كل مرحلة. وتتمثل هذه النواة في المرحلة الراهنة بالاخطبوط العالمي الصهيوني ـ الماسوني ـ الانغلوساكسوني. وتعين هذه النواة رئيس الولايات المتحدة الاميركية، الذي هو لا اكثر من "ممثل" وخادم مطيع لتلك النواة، قبل انتخابه شكليا من قبل المواطنين الاميركيين المستغفلين. والذي يشذ ولو قليلا عن ارادة هذه النواة الحاكمة الفعلية في اميركا، يكون مصيره كمصير جون كندي وشقيقه روبرت وابنه جون كندي الابن.
ب ـ الاطراف: التي تتمثل في بقية بلدان العالم قاطبة، المستعمرة، وشبه المستعمرة، والمستقلة شكليا. ويدخل في تعدادها ايضا الدول الرأسمالية غير العظمى، وحتى الدول الاستعمارية السابقة التي يطوّح بها صراع الذئاب نحو مهاوي الالحاق والتبعية والإفقار.
واننا نرى اليوم كيف ان قلة من البلدان: اميركا الشمالية واوروبا الغربية واليابان، التي لا يزيد تعداد سكانها جميعا عن 13 ـ 14% من سكان كوكبنا، هي التي تستأثر بحصة الاسد من الاقتصاد العالمي خاصة، ومن ثمار الحضارة الانسانية عامة، التي هي بالاساس ملك للبشرية بأسرها.
ونرى كيف ان تلك الدول المتروبولية ـ وتحت ستار كل البراقع المزيفة للدمقراطية وحقوق الانسان والامم ـ تحول غالبية بقاع الارض الى مدى حيوي لها، وتقوم بسرقة "الادمغة" من بلدان الاطراف، وتعمل بشكل حثيث لتحويل القسم الاعظم من المخلوقات البشرية الى كائنات دون، وارقاء حقيقيين للاحتكارات الرأسمالية العالمية، التي اصبحت تتحكم بكل شيء، من حبة القمح الى القنبلة الذرية، ومن "الرفق" بالحيوان و"حقوق" الانسان الى هندسة المجاعات والامراض والاوبئة وتدمير البيئة الارضية والكونية والتضحية بمصير مئات الملايين من البشر وتهديد مصير البشرية بأجمعها.
ومنذ سقوط الدولة العربية الاسلامية، والتاريخ العالمي هو على وجه التحديد، وبالدرجة الاولى، تاريخ التناقضات الناشئة عن هذا التقسيم القسري للعالم، وما انتجه من نظام دولي تعسفي مختل، احد وجوهه هو صراع الدول الاستعمارية والامبريالية فيما بينها.
* * *
ومع انتصار الثورة الروسية والثورة الصينية وظهور المعسكر الاشتراكي العالمي، اختلت معادلة الهيمنة الامبريالية وحيدة الطرف على العالم، ونشأ مركز عالمي مضاد، تمثل بالدرجة الاولى بالدولة السوفياتية. وأصبح النظام الدولي يقوم على ثنائية المعسكرين: الامبريالي والاشتراكي، مع اولوية التفوق الموروث للدول الامبريالية.
ولما كانت الامبريالية والكولونيالية هما العدو الرئيسي للشعوب والبلدان المستضعفة، والرأسمالية هي العدو الرئيسي للفقراء، الذين يشكلون الغالبية الساحقة ضمن تلك الشعوب، كان من الطبيعي ان ينشأ التناغم والتحالف بين المعسكر الاشتراكي، ولا سيما الاتحاد السوفياتي السابق، وبين بلدان "العالم الثالث"، التي راود شعوبها الامل انه، بالاستناد الى هذا التحالف، سوف يتم القضاء على الاستعمار، والتبعية القومية، والتمييز العنصري والديني، والاستغلال الاجتماعي، وسوف يتم في المحصلة اقامة نظام عالمي جديد حقا، مبني على العدالة الانسانية والحريات والمساواة الحقيقية بين الشعوب.
ومما لا شك فيه ان البلدان الاشتراكية قدمت لحركات التحرر الوطني وللبلدان النامية دعما معنويا وسياسيا وانسانيا وثقافيا واقتصاديا وعسكريا كبيرا، مما اعطى تلك الحركات والبلدان دفعا هائلا، ساعدها في نهاية المطاف على التخلص نهائيا تقريبا من النظام الكولونيالي بشكله القديم، الذي كان مفروضا على قارات بأكملها.
ومع ان البلدان الاشتراكية (باستثناء ذلك الجزء الصغير الذي كانته "المانيا الدمقراطية" السابقة) هي كلها من الاطراف، في التقسيم الامبريالي للعالم، وبالتالي فقد كانت افقر بما لا يقاس من الدول الامبريالية، التي يقوم غناها على نهب العالم بأسره، فقد دشنت تلك البلدان (اي البلدان الاشتراكية) نهجا جديدا في العلاقات الدولية، يتمثل في المساعدات المنزهة الضخمة جدا، الثقافية والاقتصادية والعسكرية، التي قدمت للحركات الوطنية والتقدمية، وللبلدان النامية وحديثة الاستقلال، مما ارسى اساسا متينا للصداقة بين شعوب البلدان الاشتراكية السابقة والحالية، وبين شعوب العالم الثالث على وجه الخصوص.
ومهما تبجحت الامبريالية الان بـ"انتصارها" على الشيوعية، فإنها أعجز من ان تقدم ولو جزءا بسيطا مما قدمته الدول الاشتراكية على هذا الصعيد، لسبب بسيط جدا وهو ان ذلك يتنافى مع الطبيعة اللصوصية للامبريالية، وعلى رأسها الاميركية.
فوق هذه الارضية العامة، نشأت العلاقات بين الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، وبين العرب والاكراد وغيرهم من الشعوب الاسلامية، وتميزت بطابع خاص من التعاون والتعاطف، والعمق والاتساع، مما يعود الى عدالة قضية تلك الشعوب ومتطلبات النهج الاشتراكي في العلاقات الدولية، كما يعود بشكل واع او غير واع ـ وهذا ما نؤكد عليه بشكل مميز ـ الى الاهمية الخاصة للمثلث الشرقي العظيم.
وكان العرب والاكراد قد بدأوا، ولاول مرة منذ سقوط الدولة العربية الاسلامية، يستعيدون بشكل مكثف الشخصية القومية الخاصة لكل منهم، والشخصية الشرقية والاسلامية الجامعة، ويعودون من جديد للحضور على مسرح السياسة الدولية، في اعقاب انهيار الامبراطورية العثمانية والكولونيالية الغربية التقليدية. وقد اخذت هذه العملية التاريخية مداها الزمني، مترافقة مع التعاون الوثيق مع الاتحاد السوفياتي فالمعسكر الاشتراكي.
ولكن النجاح الذي تحقق عالميا على صعيد القضاء على الكولونيالية التقليدية، التي ترتكز على آلية الاحتلال والتسلط العسكري ـ السياسي، لم يكن بالامكان تحقيق مثله في مواجهة الامبريالية، التي ترتكز على آلية التسلط المالي ـ السياسي. وذلك لسببين:
الاول ـ موضوعي: وهو ان الدول التي كانت تشكل المعسكر الاشتراكي، بما فيها روسيا والصين الكبيرتين، كان لها، ولا يزال، دور عالمي كبير عسكري ـ اقتصادي ـ سياسي. ولكن من حيث الموقع الجغرافي الذي تشغله، فإن دورها كان مؤثرا، واحيانا مؤثرا جدا، الا انه لم يكن دورا مقرِّرا في النظام الاقتصادي ـ السياسي الدولي الذي تهيمن عليه الامبريالية. وذلك على خلاف الدور الحساس الذي تشغله منطقة الشرق الاوسط، والذي يتوقف عليه وجود او عدم وجود الامبريالية العالمية. ولذلك ظل تأثير المعسكر الاشتراكي على الامبريالية، بما في ذلك على الصعيد الحاسم ـ الاقتصادي، تأثيرا جانبيا، امكن للامبريالية احتواؤه وتجاوزه، عن طرق تمتين السيطرة على بلدان الشرق الاوسط والمزيد من النهب لشعوب العالم الثالث، وتطوير آليات هذا النهب.
والثاني ـ ذاتي: وهو "الانحراف القيادي السوفياتي" والمتمثل في ان قيادة الدولة السوفياتية، الروسية بشكل اكثر تحديدا، انزلقت او زلـّقت الى المفهوم الخطر، المناقض للاممية التي كانت تنادي بها السلطة السوفياتية، ونعني به مفهوم "الدولة العظمى"، الذي هو لون من الوان المفهوم الامبراطوري القديم، القائم اصلا على التمييز بين الشعوب. والثغرة التي تسلل منها هذا المفهوم، هي ترسبات الميول القيصرية والشوفينية الروسية الكبرى (الروس يطلقون على انفسهم اسم "فيليكوروس"، وتعني حرفيا: الروس العظام). وقد عمل الانقلاب الداخلي، الستاليني ـ البيروقراطي ـ الصهيوني، على السلطة السوفياتية، على التوسيع التدريجي لهذه الثغرة، بحيث تحولت القيادة السوفياتية السابقة الى "قيصرية" من نوع جديد، او "قيصرية سوفياتية". وكان ذلك اساءة كبرى لوحدة القوى الاشتراكية والتحررية في العالم، ولوحدة الحركة الشيوعية العالمية، ولوحدة المعسكر الاشتراكي، ولوحدة الاتحاد السوفياتي، ولوجود النظام الاشتراكي ذاته، واخيرا للمصالح القومية العليا لروسيا (التي يسميها المواطنون الروس: الام ـ روسيا). (وليس عجبا ان يقوم "القياصرة السوفيات" انفسهم، امثال غورباتشوف ويلتسين وعصابتهما، بحل الحزب الشيوعي السوفياتي ذاته، الذي كانوا هم على رأسه. أي انه بين "القيصرية" و"الشيوعية"، فإن "القياصرة السوفيات" اثبتوا انهم مع "القيصرية"، ومن ثم مع الرأسمالية والامبريالية، ضد "السوفياتية" و"الشيوعية". ومن الطبيعي تماما، والحالة هذه، ان ينتهوا الى خونة وطنيين لروسيا التي ركبوا على ظهرها، والى عملاء حقراء للسي آي ايه الاميركية).
من هنا كانت بداية مشاركة القيادة السوفياتية السابقة في ما يسمى "لعبة الامم"، وفي ظنها انها ستكون ندا او شبه ند للامبريالية العالمية، في هذه "اللعبة"، وانها سوف تستطيع في نهاية المطاف التغلب على الامبريالية، من ضمن لعبتها الخاصة. وقد غاب عنها ان هذه "اللعبة" من الفها الى يائها ما هي الا لعبة امبريالية ولخدمة الامبريالية. ومن هنا كان نشوء المفارقة والتناقض، في علاقة الدولة السوفياتية مع الشعبين العربي والكردي وغيرهما من الشعوب الشرقية والاسلامية:
ـ فمن جانب: صداقة ودعم للشعوب المظلومة وحركات التحرير.
ـ ومن جانب آخر: سياسة "امبراطورية سوفياتية"، تسعى الى استخدام الصداقة والدعم من اجل فرض نفوذ "الدولة العظمى" على الاصدقاء وتحويلهم الى اتباع وابواق وعملاء للكا جي بي، من جهة، وتساوم وتبيع وتشتري مع الامبريالية على حساب الشعوب المستضعفة، من جهة ثانية.
وقد ظهر هذا الانحراف، للمثال:
ـ في الاعتراف بتقسيم فلسطين واقامة اسرائيل، و"تصدير" الشيوعيين اليهود (بقرارات حزبية مفروضة "من فوق") من الاتحاد السوفياتي واوروبا الشرقية الى اسرائيل، بوهم السيطرة عليها من الداخل.
ـ في ادارة الظهر للشعوب الايرانية والاكراد، بالتخلي عن جمهورية اذربيجان الدمقراطية الايرانية وجمهورية مهاباد الكردية وتركها للذبح في 1946.
ـ في معارضة مبدأ الوحدة العربية (حين قيام الوحدة المصرية ـ السورية في 1958)، والادعاء بعدم وجود القومية العربية، وبأنها قومية طور التكوين. الامر الذي استغلته الدكتاتورية الناصرية لشن حملة قمع وحشية ضد الشيوعيين السوريين والمصريين، كما استغله البعثيون الفاشيون في العراق لذبح الشيوعيين العراقيين ايضا.
ووصلت المفارقة بين القيادة السوفياتية والشعوب العربية والاسلامية الى حد التصادم في افغانستان، حيث اصطدمت تلك القيادة اولا مع القوى الدمقراطية الافغانية المستقلة، بمن فيها اليساريون والشيوعيون غير الذيليون الافغان، الذين سبق واطاحوا بالملكية، واستلموا السلطة واعلنوا الجمهورية الافغانية، ولكنهم لم يرضوا ان يكونوا دمى في ايدي القيادة والمخابرات السوفياتية، فتم سحقهم على يد الوحدات السوفياتية الخاصة، ثم تم احتلال افغانستان، مما استغلته الامبريالية الاميركية تمام الاستغلال، في عملية ضرب السوفيات بالشعب الافغاني المحب للحرية، وبالشعوب العربية والاسلامية التي وقفت الى جانبه، وهو ما لعب دورا رئيسيا في سقوط "الامبراطورية" السوفياتية، كما سقطت تاريخيا، وبشكل حتمي، جميع الامبراطوريات التي سبق واصطدمت بالعرب. ونذكر هنا ما قاله كيسنجر في مذكراته، انه حينما سأله الامير (لاحقا: الملك الراحل) فهد: من سينتصر في افغانستان؟، فأجابه كيسنجر: ينتصر الطرف الذي تقفون انتم معه! = لا شك ان الصهيوني كيسنجر هو قارئ جيد للتاريخ. ومن خلال هذه "القراءة" فهو يعرف بالتأكيد المصير المحتوم لما يسمى "اسرائيل").
وقد أملى هذا النهج "الامبراطوري" الروسي الخاطئ الدخول في ما سمي "المباراة الاقتصادية" مع الرأسمالية، وسباق التسلح النظامي الكثيف. وقد اخطأت القيادة السوفياتية في ذلك مرتين:
الاولى ـ في انها كانت تناقض الفكر الاشتراكي.
والثانية ـ ان الدولة السوفياتية، وتحديدا الروسية، ليست دولة امبريالية، وبالتالي فهي كانت تفتقر الى الاساس المادي الذي يؤمن لها تغطية ثمن "نفقات وتكاليف" النهج "الامبراطوري"، الا وهو نهب الشعوب الاخرى. فعوضا عن ذلك، كان البديل، او الثمن الواقعي لهذا النهج هو استلاب الشعوب السوفياتية ذاتها، وتحميلها ما لا طاقة لها على احتماله وما لا يجوز تحميلها اياه منطقيا. وكل ذلك باسم الاشتراكية.
وكان من نتيجة ذلك كله قبول القيادة السوفياتية بالدور الذي كانت تظنه مرحليا (او ربما كانت تظنه كذلك)، الا وهو دور "الشريك اللدود" في النظام الدولي المفروض، والمشاركة في نظام تقاسم النفوذ الدولي بين الدول الكبرى. وفي حين ان السلطة السوفياتية الناشئة، بزعامة لينين، سبق وفضحت ورفضت اتفاقية "سايكس ـ بيكو" واعتبرتها صفقات لصوصية استعمارية لتقاسم البلدان المستعمرة، فإن الستالينية والبيروقراطية السوفياتية الوريثة لها عادت ووافقت ضمنا على منطوق اتفاقية سايكس ـ بيكو من خلال المشاركة في اتفاقيات يالطا ـ بوتسدام، والنهج السياسي الدولي النابع من "روحيتها"، والقائم على تقاسم "مناطق النفوذ" في العالم، والذي قضى ـ فيما قضى ـ بالاعتراف بتقسيم فلسطين واقامة دولة اسرائيل، بحيث ان المساعدات السوفياتية للعرب فيما بعد صار ينطبق عليها القول المأثور "ليتك لم تزني، ولم تتصدقي!". وان "الحرب الباردة" ما هي الا نتيجة منطقية لنظام تقاسم النفوذ الدولي بين الدول الكبرى، الذي ارسته اتفاقيات يالطا.
وقد ادى هذا النهج الى حرمان القيادة السوفياتية من رؤية الحقائق التاريخية كما هي، ولا سيما التقدير التاريخي الكافي للخصوصية والاهمية الاستثنائية العالمية لمنطقة الشرق الاوسط والمثلث الشرقي العظيم، وخصوصا لدور العرب وحلفائهم الاكراد ضمن هذا المثلث، وجعل هذه المنطقة نقطة الارتكاز في السياسة الدولية السوفياتية برمتها.
وبذلك، استبعدت القيادة الستالينية والبيروقراطية السوفياتية مسألة تحرير الاراضي الارمنية المغتصبة، واقامة الوحدة العربية، وتحرير وتوحيد الامة الكردية، وتم تفويت واضاعة الفرصة التاريخية التي اتاحها لفترة من الزمن وجود النظام الاشتراكي العالمي، والتي كانت تتمثل في امكانية استخدام المركز الاشتراكي العالمي المضاد للمركز الامبريالي العالمي، لاجل خلق جبهة شرقية كبرى (روسية ـ صينية ـ عربية ـ كردية ـ اسلامية) تتمحور بالاخص حول العمل من اجل قيام دولتين: عربية وكردية، موحدتين قوميا، ومتحدتين فيما بينهما، الامر الذي كان من شأنه قلب الوضع الاقليمي والدولي برمته، الناشئ عن اتفاقيات سايكس ـ بيكو، والقضاء على التسلط الامبريالي على العالم، عبر القضاء على التسلط الامبريالي على المنطقة، ومن ثم اعادة التوازن المفقود الى المجتمع الدولي، بالتعاون مع المركز الاشتراكي الدولي.
واخيرا وصلت القيادة السوفياتية المنحرفة الى نهاية المطاف في انزلاقية المنطق "الامبراطوري"، حينما طرحت ـ عبر ما سمي "البيريسترويكا" ـ ازالة الحواجز العدائية بينها وبين الدول الامبريالية، والدخول معها كحليف وكـ"شريك ودود" هذه المرة، في نادي الهيمنة الدولية. فكانت اجتماعات واتفاقات مالطا بين دون كيشوت بوش وخادمه غورباتشوف، التي لا تزال نصوصها محجوبة عن العالم. الا ان التطورات الدولية تكشف احد جوانبها على الاقل، الا وهو تسليم القيادة الغورباتشوفية بالزعامة الاميركية للعالم، مقابل الدعم الاميركي ـ الذي يأتي ولا يأتي ـ للدولة الروسية، الذي يعني اولا واخيرا دعم سلطة جماعة "البيريسترويكا" التي ادارت ظهرها نهائيا وعلنا للاشتراكية، بعد ان كانت تخونها سرا.
وكان من الطبيعي ان ينعكس هذا الانحدار "الامبراطوري" في السياسة الدولية الروسية، بشكل سلبي، على جميع الشعوب المناضلة من اجل الخلاص من ربقة الامبريالية، وبالاخص على القضية القومية للشعبين الشقيقين العربي والكردي. ويتبدى ذلك بوضوح في استشراء الهجمة الاسرائيلية والتركية والاميركية على العرب والاكراد، ويتبدى بالاخص في زرع الشقاق، حتى بعد القضاء على نظام صدام حسين، بين العرب والاكراد، ومحاولة وضع الشعبين الشقيقين ضد بعضهما البعض في العراق وسوريا، وتناسي العدو الرئيسي المتمثل بالمحتلين الاميركيين والصهاينة والفاشية التركية.
* * *
ومع نهاية "الحرب الباردة"، بشكلها السابق، وفشل تجربة اقامة المركز الاشتراكي العالمي المضاد للمركز الامبريالي العالمي، وفشل نظام الثنائية الدولية، ذي الطبيعة الدولوية المستندة، من الجانب "الاشتراكي"، على النهج "الامبراطوري" الروسي، عادت الدول الامبريالية، بزعامة اميركا، لتظهر وحتى اشعار اخر، بصورة سيد العالم بدون منازع.
ولتبرير هذه السيادة، تقوم اجهزة الاعلام الغربية/الصهيونية المتخمة، باستغلال الدوي الذي احدثه سقوط النظام السوفياتي بفعل الانحرافات التوتاليتارية، لإغراق العالم بطوفان من الدعاية الموجهة ـ التي ترددها كالببغاوات بعض اجهزة الاعلام ومراكز التوجيه حسنة وسيئة النوايا في شتى انحاء العالم ـ حول قيام نظام دولي جديد، حر ، تسود فيه الدمقراطية وحقوق الانسان والامم، وتتحول فيه الدول الامبريالية، وخصوصا اميركا، وبقدرة قادر، الى "ملاك حارس" و"ملاك رحمة" للعالم.
ويراد من هذا العالم ـ الضحية ان تعميه الدعاية المضللة عن ان يرى خلف هذا القناع الملائكي المزيف، الوجه الحقيقي للجلاد ـ دركي ومرابي العالم ـ الذي تمثله الامبريالية الاميركانو/صهيونية.
وفي هذا السياق، ينزلق العديد من القوى العربية والكردية، الى التوهم بأن الدمقراطية والحقوق القومية والانسانية للعرب والاكراد والشعوب الاسلامية والشرقية، سوف تتحقق على ايدي ارباب النظام الدولي الجديد المزعوم. وكم هو مثير للشفقة وللاسف والاستخفاف منظر بعض السياسيين والمفكرين اليساريين، من امثال فخري كريم وبهاء الدين نوري والياس عطاالله وكريم مروة وصلاح بدرالدين، الذين استبدلوا قبلتهم القديمة، موسكو، بقبلة جديدة، هي واشنطن، والذين يريدوننا ـ بقوة الدبابة الاميركية، التي اصبحوا يستظلون بها ـ ان نصدق انهم لا زالوا يساريين وشيوعيين ووطنيين.
* * *
ان الامبريالية، قبل ظهور النظام الاشتراكي و"توتاليتاريته"، ومعه وبعده وبدونه وضده، هي الوريث الاصلي والاصيل، والام الشرعية وغير الشرعية، والمولد والمطور لجميع الآفات والشرور التي ضربت وتضرب المجتمع البشري، قديما وحديثا، كالصليبية، والعثمانية، والنازية والفاشية، والتمييز العنصري والديني، والحروب الاستعمارية، ونشر المجاعات والاوبئة، وتدمير الاخلاق والسوية الاجتماعية، والفساد والمخدرات وتجارة الرقيق الابيض وغسيل الاموال والجريمة المنظمة وغير المنظمة، وتدمير البيئة الارضية والكونية، وتقسيم العالم الى قلة من الطواغيت التي تغتني حتى البطر بإفقار الغالبية الساحقة من شعوب العالم.
فما هي الاعجوبة السماوية التي تجعل هذه الامبريالية تغير طبيعتها وتصبح، بين ليلة وضحاها، "الام الحنون" للانسانية، وحاضنة الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والامم، بمجرد انهيار التوتاليتارية السوفياتية، وتحول اصحاب التوتاليتارية انفسهم، بعد ان قاموا بكفارة "البريسترويكا"، الى دمى صغيرة واداوت بيد الامبريالية ذاتها، تتولى ـ هذه الادوات المن طراز غورباتشوف ويلتسين وشيفارنادزه ـ تجويع وإذلال شعوبها بالذات، لمصلحة تلك الامبريالية؟.
هنا ينبغي لنا التذكير بحقيقة بسيطة هي ان الامبريالية لا تستخدم العنف والاستبداد والدكتاتورية والارهاب والحروب والتمييز والقهر القومي الخ...، بكل بشاعاتها، كغاية بحد ذاتها، بل كوسيلة لتحقيق غاية ابشع منها، وهي الغاية التي لها وجدت الامبريالية وبها يتبرر كل وجودها، الا وهي غاية: تأمين مصالحها الانانية الطبقية الضيقة، على حساب مصالح جميع شعوب الارض، بما فيها مصالح "شعبها" ذاته.
و"كلمة السر" في اعتماد الدول الامبريالية اليوم على آلية الديمقراطية الشكلية ومظاهرها وتداعياتها، تكمن في الخلط المتعمد، على طريقة وضع السم في الدسم، ـ ولا عذر لمن يقعون حتى عن غير عمد في مصيدة هذا الخلط ـ ، بين هذه الآلية وبين آلية ما يسمى "الاقتصاد الحر"، اي النظام الرأسمالي الامبريالي، في ما خص مركز المتروبولات، والرأسمالي الهامشي التابع للامبريالية، في ما خص الاطراف.
ان تبني نظام "الاقتصاد الحر" وتحرير (لبررة) الاقتصاد وخصخصته، تحت شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والامم، يؤمن للاحتكارات الامبريالية خرق جميع الحواجز والحدود، واستباحة العالم، وفرض سيادتها عليه، بواسطة العلاقات الرأسمالية ـ الامبريالية، ولا سيما بواسطة اللعبة المالية الدولية والبورصات، التي تتحكم بواسطتها بضع "عملات صعبة"، وخصوصا الدولار، بالاقتصاد العالمي برمته، وبمصائر كل بلد بمفرده وجميع بلدان العالم مجتمعة. وفي هذه الحالة فإنه لا يعود مهما ـ من وجهة نظر تلك الاحتكارات الدولية ومصالحها ـ حكومة اي حزب او جبهة او ائتلاف او تيار سياسي او ديني الخ...، تحكم هذا البلد او جزء البلد او ذاك، حتى لو كانت حكومة من "الشيوعيين" او "المتطرفين الاسلاميين" انفسهم. فطالما ان "الاقتصاد الحر"، ـ في مركـّبات شبكاته الداخلية، وخصوصا شبكاته الخارجية ـ يأخذ طريقه "بحرية" لامتصاص والاستيلاء على ثروات ومجهودات جميع الشعوب؛ وطالما ان "اللعبة المالية الدولية" تسير "على بركة الله" بكل "حرية"، فإن اي "حكومة وطنية"، بصرف النظر عن ميولها وشعاراتها الخاصة، تخدم موضوعيا الامبريالية العالمية، التي من مصلحتها حينذاك ان يكون وصول تلك الحكومة الى السلطة "حرا" و"دمقراطيا"، وان تكون حكومة "مستقلة وطنيا" وغير "مفروضة من الخارج"، وحتى ـ او بالاخص ـ غير متهمة بالتبعية او العمالة التقليدية لاميركا، او غيرها من الدول الامبريالية والاستعمارية الكلاسيكية، وذلك ليكون لتلك الحكومة مصداقية "وطنية" اقوى وقاعدة "شعبية" اوسع، ولفترة زمنية اطول.
ومن ضمن هذا السياق نفسه، يصبح بامكان الامبريالية، اكثر من اي وقت مضى، اللعب بالشعار الاستعماري القديم "فرق تسد". فبعد ان تآكل وتفسخ وانهار الكثير من انظمة الحكم الوطنية والاشتراكية، بما فيها الاتحاد السوفياتي، بفعل الفساد والامتيازات، وغيرها من اشكال "عبادة الدولار" وفيروسات الايدز الرأسمالي ـ الامبريالي ذاته، تضاءلت الى درجة كبيرة مصلحة الامبريالية في دعم انظمة دكتاتورية معينة، او حركات عنصرية او شوفينية او دينية، رجعية، معينة، كانت في السابق ـ اي الامبريالية ـ تؤمن مصالحها بواسطتها، واصبح بامكانها الان تأمين تلك المصالح عبر دائرة اوسع من الانظمة والحركات القومية والدينية والاتنية، مهما كانت ايديولوجيتها وشعاراتها السياسية المجردة، اذا كانت تصب في مستنقع "الاقتصاد الحر" الذي تسرح وتمرح وتسود فيه، بكل "حرية"، حيتان وتنانين الاحتكارات الامبريالية المعولمة. وتلك هي الارضية التي تتطور فوقها الان، امام انظار العالم باسره، الظاهرة الخطيرة المتناقضة التالية:
ـ في الوقت الذي تسير فيه الدول الامبريالية نحو المزيد من التمركز والاتحاد والوحدة، فإنها تعمل بشتى السبل على "بلقنة" و"لبننة" و"عرقنة" كل انحاء العالم غير الامبريالي، عن طريق تسعير النزاعات واشعال الفتن والحروب الاتنية والدينية والعشائرية والاقليمية والقومية، بكل اشكالها الايديولوجية والسياسية، وفي جميع الاصقاع والبلدان، حيث تتصارع مختلف القوى على اقتسام "فتات المائدة" لا غير، وتتسابق فيما بينها الى كسب تأييد الدول الامبريالية ذاتها للوقوف الى جانب كل منها، في حين ان الدول الامبريالية توزع الادوار والسيناريوهات فيما بينها، بحيث يبدو انها تقف مع الجميع ضد الجميع، طالما انهم يتصارعون ويخوضون الحروب الخطأ ضد الأعداء الخطأ، بينما العدو الاساسي هو واحد: الرأسمالية ـ الامبريالية عامة، والاميركانو/صهيونية خاصة.
وبعد الاستنزاف المادي والمعنوي لمختلف الاطراف، والابادة المتبادلة لالوف وملايين الناس، ونشر الاوبئة وتجويع واذلال شعوب بأسرها، تتدخل الدول الامبريالية بصفة "المنقذ"، وباسم "الانسانية" و"الشرعية الدولية" طبعا، لتطويع الجميع واخضاعهم لهيمنتها الاقتصادية في الحساب الاساسي، ايا كان الشكل القومي والسياسي الذي يؤمن لها تلك الهيمنة.
والآن فإن الاختلال في النظام الدولي يتفاقم بوتيرة لا سابق لسرعتها، وتصفع وجه العالم بأسره مفارقة زعامة دولة امبريالية واحدة، هي الولايات المتحدة الاميركية، التي تريد اعادة تركيب النظام الدولي على قياس ارادتها ومصالحها الضيقة، ضد جميع شعوب وبلدان العالم، مما يتنافى مع ابسط القواعد الشكلية ذاتها للديمقراطية وحقوق الانسان والامم.
* * *
واذا كان هذا الواقع هو امر طبيعي، من ضمن منطق التطور الرأسمالي ـ الامبريالي، السائر نحو المزيد من المركزة الاحتكارية، الوحشية واللاحضارية، فإنه غير طبيعي، من ضمن منطق تطور المجتمع البشري، السائر نحو المزيد من التفاعل الحضاري والتحرر والتآخي الانساني.
ولكن امكانية تغيير هذا الواقع تتطلب حضور عامل دولي نقيض، بشخص متحد حضاري، عالمي الاهمية والمدى والتأثير، وتتوفر فيه العناصر المادية والمعنوية القادرة على مواجهة الامبريالية بوجه عام، والامبريالية الاميركانو/صهيونية بوجه خاص، على ارضية وجودها ذاتها، والتغلب عليها في عقر دارها، واعادة التوازن والتفاعل الحضاري الحر للمجتمعات البشرية على اختلافها.
وفي جدلية العلاقة بين الجغرافيا والتاريخ، فإن منطقة الشرق الاوسط (قلب المثلث الشرقي العظيم)، هي التي تتوفر فيها الشروط الرئيسية الخاصة بوجود العامل الدولي العتيد. وهذه الشروط هي:
اولا ـ ان هذه المنطقة تحتل مركز "عقدة الموصلات" في جميع الشبكات الخاصة بكل اوجه النشاط المالي والتجاري والاقتصادي والسياسي والستراتيجي في العالم. فاذا كانت "كل الطرق تؤدي الى روما"، ولكن "روما" ـ مكانة ومكانا ـ كانت ولا تزال تختلف بين عصر وعصر، فإن كل الطرق (مأخوذة في كليتها المترابطة) كانت ولا تزال تمر في الشرق الاوسط، على مر العصور، حتى في عصر الصواريخ عابرة القارات وحرب النجوم والشركات متعددة الجنسية والانترنت. وهذا الدور المفصلي يتعلق بالارض والناس معا. والامبريالية، بنظامها الدولي، لم توجد، ولا تستطيع الاستمرار بالوجود ليوم واحد، الا بالسيطرة على "عقدة المواصلات العالمية"، اي الشرق الأوسط. لقد استطاع النظام الامبريالي العالمي الاستمرار في الوجود، بل والتطور، حتى حينما انفصلت عنه روسيا (سدس الكرة الارضية جغرافيا) والصين (سدس الكرة الارضية ديموغرافيا)، لانهما يشغلان موقعا جانبيا في البنية العالمية. وقد استطاعت الامبريالية العالمية، ولا تزال، ان تتكيف بأن روسيا والصين، على اهميتهما العظمى بحد ذاتهما، هما "خارج" بالنسبة للنظام الامبريالي العالمي. ولكن هذا النظام لن يستطيع الاستمرار يوما واحدا في الوجود اذا انفصلت عنه منطقة الشرق الاوسط، لسبب بسيط هو انها تمثل قلب العالم قديما وحديثا، وتمثل بالتالي القلب والرئة والعمود الفقري والشبكة العصبية للنظام الامبريالي العالمي برمته.
ثانيا ـ ان هذه المنطقة ذاتها، فيها من الخيرات، والطاقات الطبيعية، والبشرية المتفاعلة مع هذه الارض، من ايام الارجوان والاخشاب والمعادن الاولى، وحتى ايام النفط والذرة والطاقة الشمسية، ما يجعلها اهم واقرب واسهل وارخص خزان هائل للثروة، فاض ولا يزال يفيض على العالم اجمع منذ اقدم العصور. وبدون هذا "الخزان" لا وجود للقدرة المالية والاقتصادية والستراتيجية المتفوقة للامبريالية، وبالتالي لا وجود للامبريالية ذاتها.
ثالثا ـ ان الحضارة الشرقأوسطية هي ام الحضارات العالمية. والامبريالية ـ ككل الامبراطوريات الاستعمارية القديمة ـ هي ملزمة بتبني "هوية" حضارية ما، تبرر بها وجودها. واذا كان نبي الشؤم الاميركانو/صهيوني هنتنغتون يتحدث عن "صراع الحضارات"، فإن ابسط فلاح في صعيد مصر، وابسط راعي ابل في الربع الخالي يسأله: اين هي "الهوية الحضارية" الخاصة للامبريالية؟!
ـ المسيحية؟ اليهودية؟ الماسونية؟
ـ ان كل هذه الاجوبة تبين بجلاء ان الامبريالية انما تعيش على اغتصاب وتشويه وسوء استخدام الحضارة الشرقأوسطية. ويتبدى ذلك بوضوح في:
ـ الاستخدام الصهيوني البشع لليهودية، الشرقأوسطية الجذور.
ـ في الاغتصاب الغربي للمسيحية، الشرقية والعربية الاصل والفصل والمآل.
ـ واخيرا حتى في محاولة "تغريب" الاسلام ذاته، العربي القلب واللسان، على الطريقة التركية "العثمانية الجديدة: الاتاتوركية/الاردوغانية".
ـ ان مسألة الصراع العربي ـ الاسرائيلي ذاتها، هي في الحساب الاخير مسألة "داخلية" شرقأوسطية. وفي اللحظة التي تتخلى فيها اسرائيل والصهيونية عن "شرقيتها"، اي تتخلى "دينيا" وسياسيا وعمليا عن القدس وفلسطين، فإنها تتخلى عن وجودها ذاته، مهما بلغت امتداداتها وقوتها في جميع ارجاء العالم. والصهيونية انما تستخدم مكانتها الامبريالية الغربية لاخضاع الشرق، بما فيه "الطابع الشرقي" لليهودية. ولكن مهما طال الصراع، ومهما استقوت اسرائيل بالغرب الامبريالي، فإن هذا الصراع لن يحل، ايا كان شكل الحل، واذا كان من حل، الا كمشكلة "داخلية" شرقية او شرقأوسطية. وما سوى ذلك، ومهما طال الزمن، فليس هو سوى اضغاث احلام "صهيونية غربية"، لن تكون افضل من اضغاث الاحلام "الصليبية الغربية"، ولن يكون مصير الصهاينة افضل من مصير الصليبيين.
ـ والامبريالية بأسرها غير قادرة عن الانعتاق من الهوية الحضارية الشرقية، مهما حاولت تغريب اليهودية والمسيحية والاسلام (عبر العثمنة ـ الخزرية وبمساعدة "مسلمين!" من يهود الدولمه مثل اتاتورك او مثل اردوغان).
ـ وحتى ظاهرة الماسونية، ورموزها وطقوسها الشرقية، تبين كيف ان الامبريالية، اللقيطة حضاريا، هي محكومة ـ كاللعنة ـ بحمل هوية "ثقافية" شرقأوسطية مزورة، لا يمكن لها بدونها تأكيد "انسانيتها" و"عالميتها".
فماذا يتبقى من "الحضارة" الامبريالية والصهيونية اذا نزعتا أقنعتهما "الحضارية" الشرقية المزيفة؟ ـ الدولار والدبابة وصبرا وشاتيلا وابو غريب وغوانتنامو والايدز والقنبلة الذرية!
ان استعادة الوجه الانساني الاصيل للحضارة، الذي يعني اول ما يعني اعادة الاعتبار للينابيع الشرقية للحضارة، والفضح التام للامبريالية بنزع الاقنعة "الحضارية" الشرقية المزيفة عن وجهها البشع، انما يعني عزلتها، والقضاء على اي مبرر لوجودها، وموتها.
* * *
وهنا نسمح لانفسنا بعرض الفرضية التالية، القائمة على ما يمكن تسميته "الخيال التاريخي"، قياسا على ما يسمى "الخيال العلمي":
اذا استيقظت البشرية صباح يوم جميل، على قيام دولة اتحادية عربية ـ كردية ـ شرق اوسطية (اشتراكية، اسلامية)، على انقاض الولايات "اللا"عربية الحالية، وتركيا وايران الحاليتين، ويقف على رأسها رجال كالحسين بن علي وخالد بن الوليد وصلاح الدين الايوبي، وفرج الله الحلو وسلام عادل وعبدالخالق محجوب وكمال جنبلاط وموسى الصدر؛ وأعلنت تلك الدولة (انطلاقا من رسالتها الحضارية التاريخية، وقياسا على تقليد محاكمة النازيين، واعتذار المانيا عن ابادة اليهود وتقديم التعويضات الى اسرائيل) انه ينبغي نصب "محكمة التاريخ"، لمحاكمة الامبريالية الاميركية والاوروبية الغربية والصهيونية على ما اقترفته بحق الانسانية منذ الحروب الصليبية حتى اليوم، وخصوصا على ابادة الهنود الحمر والافارقة، واعادة الحقوق التاريخية لاصحابها، وتقديم التعويضات المعنوية والمادية المتوجبة لهم؛ وأنه، والى ان يتم ذلك، فإن هذه الدولة العربية ـ الكردية ـ الشرقأوسطية (الاشتراكية والاسلامية) الجديدة سوف تعاقب اميركا واوروبا الغربية، بمقاطعتهما مقاطعة شاملة، وسوف تقتصر في علاقاتها الاقتصادية والسياسية والثقافية على البلدان الشرقية والاوروبية الشرقية فقط؛ فما الذي سيحدث حينذاك، نتيجة هذه المقاطعة، لاميركا ولاوروبا الغربية، من جهة، وللشرق والبلدان الشرقية، من الجهة المعاكسة؟؟
في رأينا المتواضع، ونترك للباحثين المختصين القيام بالدراسات الافتراضية العلمية حول ذلك، ان البلدان العربية والاسلامية والشرق عموما تستطيع ان تعيش بدون اميركا واوروبا الغربية. وليس العكس. وان مقاطعة عربية ـ اسلامية شاملة لاميركا واوربا الغربية ستؤدي الى ثلاث نتائج عملية، لا مكان فيهما للخيال:
الاولى ـ الانهيار السريع التام، والى الابد، للنظام الرأسمالي ـ الامبريالي الحالي في اميركا واوربا الغربية، كبناء من كرتون.
والثانية ـ نهضة عمرانية واقتصادية وحضارية عارمة، في الشرق كله، تعوض في بضعة عقود من السنين "التخلف الالفي" الذي فرضه ولا يزال العدوان الامبريالي/الصهيوني الغربي على الشرق المظلوم.
والثالثة ـ ان الجماهير الشعبية ـ الضحية في اميركا الشمالية واوروبا الغربية ستأخذ "الدرس التاريخي" الضروري، لعدم الوقوف مجددا مع اي نزعة استعمارية وامبريالية غربية، معادية لشعوب الشرق، تماما كما فعلت في الموقف التاريخي من النازية والفاشية بعد هزيمة الهتلرية.
* * *
ان انهاء الاختلال في النظام الدولي، وانقاذ تسعة اعشار البشرية من الهيمنة الامبريالية، بكل تبعاتها المأساوية، واعادة التوازن الحضاري، الثقافي والاقتصادي والسياسي، بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، انما يبدأ من النقطة ذاتها التي بدأ منها هذا الاختلال، اي اعادة توحيد شعوب الشرق الاوسط، واستعادة دورها العالمي التاريخي.
واذا كانت المنطقة قد اضطلعت بهذا الدور في السابق، بشكل تلقائي غير مخطط له، بحكم خصائص موقعها الجغرافي لا غير، فإن تحقيق هذه الضرورة التاريخية من جديد، لا يمكن ان يتم بعد الان بالشكل التلقائي والعفوي ذاته، بل عن وعي وتصميم مسبقين. ذلك ان الامبريالية ـ بما هي آلية دولية للهيمنة ـ سوف تفعل المستحيل لمنع اي تغيير في النظام الدولي الراهن، يسير باتجاه القضاء على هذه الهيمنة.
وحجر الزاوية في تحقيق هذه الضرورة التاريخية هو:
اولا ـ العمل لتحقيق الوحدة القومية العربية.
ثانيا ـ العمل لتحقيق الوحدة القومية الكردية.
ثالثا ـ العمل لتحقيق الوحدة العربية ـ الاسلامية المنفتحة والمتسامحة، استنادا الى الوحدة العربية ـ الكردية.
وتثبت التجربة التاريخية، في مختلف مراحل النهوض والانحطاط،، كما تثبت تجربة اجيالنا المعاصرة، ان هذه الوحدة الثلاثية الابعاد، هي مترابطة بشكل عضوي، الى درجة يستحيل معها فصل وتحقيق احد ابعادها دون الاخر.
وفي ظروف مرحلة الردة والانحطاط و"البيريسترويكا"، التي يجري فيها مسخ الديمقراطية باسم الديمقراطية، وسلب حقوق الانسان باسم حقوق الانسان، واذلال وتجويع وابادة الشعوب والامم باسم حق تقرير المصير للشعوب والامم، وحمل "المسيح" الاعور الدجال الاميركي/الصهيوني على ظهر الانسانية المعذبة؛ في هذه الظروف، قد يرى البعض في هذا الكلام "مثاليات" فكرية لاواقعية ولامعقولة.
ولكننا، بالعكس، نرى ان استمرار الوضع الراهن للامة العربية، وللامة الكردية، وللشعوب الاسلامية قاطبة، هو اللامعقول، وإن لم يكن فيه شيء من المثالية، لا حقيقية ولا متخيلة. وان تغيير هذا الوضع، مع كل صعوبة هذا التغيير، هو الشيء الواقعي الوحيد الممكن، والاسهل بكثير من استمراره. وان المعقولية، ومنتهى الواقعية ليس هو في إغماض العين عن الحقائق التاريخية، بل في النظر اليها وجها لوجه:
1 ـ ان الستاتيكو الدولي الراهن لبلدان المنطقة، انما هو اعادة انتاج "شرعية" "دولوية" "استقلالية" للوضع الولاياتي، الذي كانت فيه المنطقة في العهد العثماني. ولا تزال الدولة الاتاتوركية ـ "الاسلامية!" المعاصرة حتى اليوم، بالنسبة للغرب الامبريالي، هي "الباب العالي" ("المسلم!")، مضافا اليه "الباب الواطي" الاسرائيلي، اللذين يراد لهما ان يتحكما بتلك "الولايات". والعرب والاكراد، الذين سكروا لبعض الوقت على "الاستقلال" القطري للعراق وسوريا وبقية السبحة، وتنازعوا ولا يزالون على فتات السلطة التابعة للامبريالية، سيستفيقون عاجلا ام آجلا على هذا الواقع المرير، ويرون انهم جميعا مهددون ليس فقط بالحرمان من عائدات النفط والغاز، بل حتى ومن شربة ماء من مياه الانهار التي تنبع وتسيل في اراضيهم. (الجماهير العراقية المظلومة تطالب اليوم بتخفيض اسعار المحروقات (اي نفطها المنهوب)، وليس بعيدا اليوم الذي ستطالب فيه هذه الجماهير بحقها في المياه الصالحة للشرب التي يسرف المحتلون وعملاؤهم في استخدامها لازالة قذاراتهم التي لا تنتهي. وقديما قال الشاعر العربي: كالعيس في البيداء...).
2 ـ ان "الشرعية الدولية"، مترجمة اقليميا، اي "شرعية" الدول القطرية الراهنة، الولايات التركية السابقة واشباهها، انما تستخدم لطمس القضية القومية للعرب، وللاكراد، ولجميع الشعوب الاسلامية الاخرى، ولضربها بعضها ببعض والهيمنة عليها جميعا باسم "حقوق الانسان" وحقوق الاقليات والاكثريات وحقوق الامم، وطبعا باسم "الشرعية" والقرارات الدولية.
3 ـ ان الامبريالية تدرك ان قيام دولة عربية موحدة من شأنه ان يقلب موازين القوى الدولية رأسا على عقب. ولذلك فهي تريد وتعمل المستحيل كي تبقى حدود الدولة التركية على تماس مباشر مع المنطقة العربية المفككة، لتنفيذ "الاحتكاك" والتدخل التركي كلما دعت الحاجة. ولهذا السبب ذاته فهي تمنع ايضا قيام دولة كردية قومية موحدة ـ بما فيه من "انتقاص" من سلامة و"تمامية" الاراضي "التركية"! لأن مثل هذه الدولة لا يمكن ان تكون كما قد يراد لها "عازلا طبيعيا" بين تركيا والمنطقة العربية، بل انها لا يمكن ان تقوم الا بالاستناد الى الدعم العربي، ومن ثم فهي ستسير فور قيامها على خطى صلاح الدين الايوبي. وهذا أخشى ما تخشاه الامبريالية الاميركية على الخصوص، وهو ما يفسر موقفها الممالئ لبعض القيادات الكردية العشائرية العميلة في العراق والوقوف بحزم ضد حركة التحرر الكردية في تركيا. وفي هذا وحده ما يكفي لتبيـّن العلاقة الرحمية بين قضية الوحدة القومية العربية، والوحدة القومية الكردية. فطالما انه لا وجود لدولة عربية موحدة، او لحركة تحرير عربية موحدة، قادرة على وضع حد لعربدة الامبريالية وركائزها في المنطقة، فإن الارض الكردية سوف تظل محكومة، من ضمن لعبة الدومينو الامبريالية الدولية، بأن تكون "مسرح عمليات"، فقط لا غير، ضد العرب، وبأية حجة كانت. وطالما انه لا وجود لدولة كردية موحدة، او حركة تحرير كردية موحدة قادرة، فإن الحدود الشرقية ـ الشمالية للمشرق العربي، سوف تبقى مفتوحة لشتى اشكال التهديد والعدوان والاستنزاف، من قبل اي "محمد الفاتح" او "سلطان سليم" آخر لابس قبعة غربية. وفي كلتا الحالتين، سوف يبقى العرب والاكراد محصورين بين مطرقة "اليهود الخزر" الذين اعادوا بناء دولتهم المسماة "اسرائيل" في فلسطين المحتلة، وبين سندان "ابناء عمومتهم" الشوفينيين الاتراك الطورانيين، الذين يطمحون الى فرض سيطرتهم على الشعوب الاسلامية قاطبة، ويكنون ـ لهذا السبب بالذات ـ حقدا تاريخيا مميزا على العرب والاكراد، الذين وقفوا ويقفون حائلا دون تحقيق المطامح الشوفينية "الطورانية" بمختلف اشكالها "العلمانية!" المزيفة و"الاسلامية!" الاكثر زيفا.
4 ـ لقد اثبتت مجريات الاحداث حتى الان، فشل التجربة القطرية في حل القضية القومية العربية، من اي زاوية نتناولها فيها. كما اثبتت طبعا، فشل الحل القطري للقضية القومية الكردية. و"الجحوش" التي تركض اليوم ـ كحمار جحا ـ خلف الخسة المربوطة الى العصا الاميركية، انما تركض خلف حتفها. وانه لمن المؤسي، بالنسبة الى شعبين شقيقين لهما كل هذا التاريخ والمصالح والافاق العالمية المشتركة، ان تختزل العلاقة فيما بينهما، ضمن الطرح القطري ضيق الافق والمصطنع، الى مسألة ربح او خسارة بضعة مقاعد نيابية ووزارية عميلة وبضعة "اشبار" من الارض او بضعة "ابار" من النفط، علما ان الامبريالية تصول وتجول وتضع مصالحها فوق الجميع، وتركب على ظهور الجميع وتدوس رؤوس الجميع. في حين ان الطرح القومي العربي، هو الذي يهدف الى كسب الامة الكردية كلها الى جانب العرب. والطرح القومي الكردي، هو الذي يهدف الى كسب الامة العربية كلها الى جانب الاكراد. وحينذاك سوف يعز الله العرب بالكرد في كل ارض عربية، مثلما يعز الكرد بالعرب في كل ارض كردية.
5 ـ ان عملية الطعن المتواصل بمصداقية القضية القومية العربية، وهي العملية الضرورية للامبريالية والصهيونية، تسير جنبا الى جنب، بل وتنطلق بشكل اساسي من سلبيات حل "اللاحل" القطري للقضية الكردية، الى درجة ان اصبحت هذه القضية العادلة العوبة بيد اميركا واسرائيل، واصبحت "كردستان العراق" قاعدة اسرائيلية. وهذه العملية تغتذي بالدرجة الاولى من الممارسات الخاطئة والاجرامية بحق اخوتنا الاكراد، التي تضع القطرية فوق القومية، والتي تضع "السلطة القطرية العربية" فوق القضية القومية العربية. والامة العربية، في المواجهة الرئيسية التاريخية مع الامبريالية والصهيونية، حربا او "سلما"، تحتاج الى تكتيل جبهة عالمية داعمة لها. وهذا غير ممكن بدون تأكيد وابراز مصداقيتها القومية ـ الانسانية، القائمة على ينابيع قوتها الاساسية، وهي: النهج التاريخي، الذي كرسه العرب وتبناه الاكراد، والقائم على الانفتاح والسماحة والتفاعل الحضاري، والذي قاتل لاجله العرب والاكراد بقيادة صلاح الدين الايوبي. ومفتاح ومحك تأكيد هذه المصداقية، في المرحلة التاريخية الراهنة، الذي يسحب البساط من تحت ارجل الامبريالية والصهيونية وعملائهما الاتراك والعرب والاكراد، والذي من شأنه تقويض "سايكس ـ بيكو" واعادة رسم خريطة المنطقة، كما تريد شعوبها المناضلة، هو التبني العربي للقضية القومية للشعب الكردي، الذي كان ولا يزال، رغم بعض القيادات الخائنة، الشعب التوأم للعرب.
* * *
ان التصدي لاوضاع الردة الراهنة، واعادة التوازن الحضاري الى العالم، يكمن في الارتفاع الى مستوى المصلحة القومية ـ الانسانية العليا، التي تقتضي قيام نهضة قومية جديدة، عربية، وكردية، تتجاوز الحدود القطرية المصطنعة، التي كانت وبالا على جميع شعوب المنطقة، وتؤسس لاعادة الدور التاريخي العتيد للمثلث الشرقي العظيم!



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رد الى صديق كردي
- المحكمة الدولية ضرورة وطنية لبنانية وضمانة اولا لحزب الله
- المخاطر الحقيقية للوصاية على لبنان والمسؤولية الوطنية الاساس ...
- حزب الله: الهدف الاخير للخطة -الشيطانية- لتدمير لبنان
- ؛؛الوفاق الوطني؛؛ اللبناني ... الى أين؟؟
- ماذا يراد من لبنان الجديد في الشرق الاوسط الكبير الاميرك ...
- -الفأر الميت- للمعارضة السورية
- العالم العربي والاسلامي ودعوة ديميتروف لاقامة الجبهة الموحدة ...
- هل تنجح خطة فرض تركيا وصيا اميركيا على البلاد العربية انطلاق ...
- الحرب الباردة مستمرة بأشكال جديدة بين -الامبراطورية- الروسية ...
- حرب الافيون العالمية الاولى في القرن 21: محاولة السيطرة على ...
- هل يجري تحضير لبنان لحكم دكتاتوري -منقذ!-؟
- أسئلة عبثية في مسرح اللامعقول
- الجنبلاطية والحزب التقدمي الاشتراكي
- وليد جنبلاط: الرقم الاصعب في المعادلة اللبنانية الصعبة
- القيادة الوطنية الجنبلاطية والنظام الدكتاتوري السوري
- القضية الارمنية
- سوريا الى أين؟
- سنتان على الحرب الاميركية ضد العراق2
- سنتان على الحرب الاميركية ضد العراق


المزيد.....




- كوليبا يتعرض للانتقاد لعدم وجود الخطة -ب-
- وزير الخارجية الإسرائيلي: مستعدون لتأجيل اجتياح رفح في حال ت ...
- ترتيب الدول العربية التي حصلت على أعلى عدد من تأشيرات الهجرة ...
- العاصمة البريطانية لندن تشهد مظاهرات داعمة لقطاع غزة
- وسائل إعلام عبرية: قصف كثيف على منطقة ميرون شمال إسرائيل وعش ...
- تواصل احتجاج الطلاب بالجامعات الأمريكية
- أسطول الحرية يلغي الإبحار نحو غزة مؤقتا
- الحوثيون يسقطون مسيرة أمريكية فوق صعدة
- بين ذعر بعض الركاب وتجاهل آخرين...راكب يتنقل في مترو أنفاق ن ...
- حزب الله: وجهنا ضربة صاروخية بعشرات صواريخ الكاتيوشا لمستوطن ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج حداد - النظام الدولي المختل والدور التاريخي العتيد للمثلث الشرقي العظيم